الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)} يقول الحقّ جلّ جلاله: {يا أيها الرسول بلغ} جميع {ما أنزل إليك من ربك} غير مراقب أحدًا ولا خائف مكروهًا، {وإن لم تفعل}؛ بأن لم تبلغ جميع ما أمرتك وكتمت شيئًا منه، {فما بلغت رسالته} أي: كأنك ما بلغت شيئًا من رسالة ربك؛ لأن كتمان بعضها يُخل بجميعها، كترك بعض أركان الصلاة. وأيضًا كتمان البعض يُخل بالأمانة الواجبة في حق الرسل، فتنتقض الدعوة للإحلال بالأمانة، وذلك محال. ولا يمنعك أيها الرسول عن التبليغ خوف الإذاية فإن {الله يعصمك من الناس} بضمان الله وحفظه، {إن الله لا يهدي القوم الكافرين} أي: لا يمكنهم مما يريدونه منك. وقد قصده قوم بالقتل مرارًا، فمنعهم الله من ذلك كما في السير عن النبي صلى الله عليه وسلم: «بَعَثَني اللهُ بِرِسَالَتِه، فَضِقتُ بها ذَرعًا، فأوحَى اللهُ لي: إن لم تُبلِّغ رِسَالَتِي عَذَّبتُكَ، وَضَمِنَ لِيَ العِصمَةَ فَقَوِيتُ». وعن أنس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس، حتى نزلت، فأخرج رأسه من قبة أدم، فقال: «انصرفوا يا أيها الناس؛ فقد عصمني الله من الناس» وظاهر الآية يوجب تبليغ جميع ما أنزل الله. ولعل المراد تبليغ ما يتعلق به مصالح العباد، وقصد بإنزاله إطلاعهم عليه، فإن من الأسرار الإلهية ما يحرم إفشاؤه. قاله البيضاوي. الإشارة: قال الورتجبي: أمره بإبلاغ ما أنزل إليه من الذي يتعلق بأحكام العبودية، ولم يأمرهم بأنه يعرفهم أسرار ما بينه وبين الله، وما بين الله وبين أنبيائه وأوليائه. ثم قال: {والله يعصمك} أي: يعصمك أن يوقعك أحد في التمويه الغلط والحيل في طريقك إليَّ، وهذا لكونه مختارًا بالرسالة، وحقائق الرسالة في الرسول: ظهور أنوار الربوبية في قلبه، وبيان أحكام العبودية في سرّه. وقال الأستاذ، يعني القشيري: يقال في قوله: {والله يعصمك من الناس} أي: حتى لا تغرق في بحر التوهم، بل تشاهدهم كما هُم؛ وجودًا بين طرفي العَدَم. انتهى نقل الورتجبي. وقال القشيري أيضًا: لا تكتم شيئًا مما أوحينا إليك مُلاحظةً غير، إذ لا غيرَ في التحقيقَ إلا رسومًا موضوعة، أحكام القدرة عليها جارية. ثم قال: {والله يعصمك} أي: يعصم ظاهرك من أن يَمَسَّك من أذاهم شيء، فلم يتسلط عليه بعد هذا عدو، أي: وما وقع له من الشج وغيره كان قبل ذلك، وقيل: المراد عصمته من القتل، ثم قال: ونصون سِرَّك عنهم، حتى لا يقع على إحساسهم. وقال شيخنا السلمي: قيل: يعصمك منهم أن يكون منك إليهم التفات، أو يكون لك بهم اشتغال. انتهى. قلت: صدق الباطن، لا ينفك عنه من أول الأمر؛ لأنه من ضروريات كونه رسول الله بالله، وهذا قد يتحقق للمأذون من أتباعه، فضلاً عنه، والظاهر ما صدر به من عصمة ظاهره، أو أن يقع خلل في طريقه؛ بتمويه أو غلط أو حيلة، كما أشار إليه الورتجبي. فللَّه دره. قاله المحشي الفاسي. والله تعالى أعلم.
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)} {قُلْ ياأهل الكتاب لَسْتُمْ على شَيْءٍ حتى تُقِيمُواْ التوراة والإنجيل وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ...} يقول الحقّ جلّ جلاله: {قل} يا محمد: {يا أهل الكتاب}، اليهود والنصارى، {لستم على شيء} أي: لستم على دين يعتد به، {حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أُنزل إليكم من ربكم} على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، ومن إقامتها الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والإذعان لحكمه، فإن الكتب الإلهية بأسرها، أمرت بالإيمان والإذعان، لمن صدقته المعجزة، وهي ناطقة بوجوب الطاعة له، والمراد بإقامة الكتابين: إقامة أصولهما وما لم ينسخ من فروعهما، لا جميعهما. والله تعالى أعلم. الإشارة: ما قيل لأهل الكتاب يقال لهذه الأمة المحمدية على طريق الإشارة، فيقال لهم: لستم على شيء، يُعبَأ به من أعمالكم وأحوالكم، حتى تقيموا كتابكم القرآن، فتحلوا حلاله، وتحرموا حرامه، وتقفوا عند حدوده، وتمتثلوا أوامره، وتجتنبوا نواهيه، وتقيموا أيضًا سنة نبيّكم؛ فتقتدوا بأفعاله، وتتأدبوا بآدابه، وتتخلقوا بأخلاقه، على جهد الاستطاعة، ولذلك قال بعض السلف: ليس عليّ في القرآن أشد من هذه الآية: {قل يا أهل الكتاب لستم على شيء} الآية. كما في البخاري. ثم ذكر عتوّ اليهود وطغيانهم، فقال: {... وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ مَّآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الكافرين} يقول الحقّ جلّ جلاله: {وليزيدن كثيرًا} من اليهود {ما أنزل إليك} من القرآن والوحي {طغيانًا وكفرًا} على ما عندهم، فلا تحزن عليهم بزيادة طغيانهم وكفرهم بما تبلغه إليهم، فإن ضرر ذلك لاحق بهم، لا يتخطاهم، قال ابن عباس: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم رافعُ بن حارثة وسلام بن مشكم وملك بن الصيف ورافع بن حريملة في جماعة من اليهود، فقالوا: «يا محمد، ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم، وأنك مؤمن بالتوراة وبنبوة موسى، وأن جميع ذلك حق؟ قال:» بلى، ولكنكم أحدثتم وكتمتم وغيرتم «فقالوا: إنا نأخذ بما في أيدينا فإنه الحق، ولا نصدقك ولا نتبعك، فنزلت فيهم هذه الآية. الإشارة: من شأن أهل المحبة والاعتقاد، الذين سبقت لهم من الله العناية والوداد، إذا ازداد على أشياخهم فيض علوم وأنوار وأسرار؛ زادهم ذلك يقينًا وإيمانًا وعرفانًا، يجدون حلاوة ذلك في قلوبهم وأسرارهم؛ فيزدادون قربًا وشهودًا، وأهل العناد الذين سبق لهم من الله الطرد والبعاد؛ إذا سمعوا بزيادة علوم وأنوار على أولياء الله، زادهم ذلك طغيانًا وبُعدًا، فلا ينبغي الالتفات إليهم، ولا الاحتفال بشأنهم، فإن الله كاف شرهم، وبالله التوفيق.
{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)} قلت: {والصابئون}: مبتدأ، والخبر محذوف، أي: إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن بالله واليوم الآخر فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والصابئون كذلك. انظر البيضاوي وابن هشام. يقول الحقّ جلّ جلاله: {إن الذين آمنوا} بمحمد صلى الله عليه وسلم {والذين هادوا والصابئون}: قوم بين النصارى والمجوس، أو عباد المكواكب، أو قوم بقوا على دين نوح عليه السلام {والنصارى}: قوم عيسى، {من آمن} منه {بالله} إيمانًا حقيقيًا؛ بلا شرك ولا تفريق، وآمن باليوم الآخر، {وعمل صالحًا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون}، قال ابن عباس: نسخها: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عِمرَان: 85]، وقيل: إن هؤلاء الطوائف من آمن منهم إيمانًا صحيحًا فله أجره، فيكون في حق المؤمنين: الثبات عليه إلى الموت، وفي حق غيرهم: الدخول في الإسلام، فلا نسخ. وقيل: إنها فيمن كان قبل بعث النبي صلى الله عليه وسلم فلا نسخ أيضًا. قاله ابن جزي. الإشارة: الذي طلب الله من العباد ورغبهم في تحصيله، وجعله سببًا للنجاة من كل هول في الدنيا والآخرة ثلاثة أمور: أحدها: تحقيق الإيمان بالله، والترقي فيه إلى محل شهود المعبود، والثاني: تحقيق الإيمان بالبعث وما بعده، حتى يكون نصب عينيه، ويقربه كأنه واقع يشاهده؛ إذ كل آت قريب. والثالث: إتقان العمل إظهارًا للعبودية، وتعظيمًا لكمال الربوبية، على قدر الاستطاعة من غير تفريط ولا إفراط، وبالله التوفيق.
{لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)} قلت: المضارع إذا وقع بعد العلم وجب إهمال (إن) معه، فتكون مخففة، وإن وقعت بعد الظن يصح فيها الوجهان، فمن قرأ: {وحسبوا ألا تكون} بالرفع، فأن مخففة، ومن قرأ بالنصب فأن مصدرية. والفرق بين العلم والظن، أن علم العبد إنما يتعلق بالحال، و(أن) تُخلص للاستقبال، فلا يصح وقوعها بعد العلم، فأهملت وكانت مخففة من الثقيلة، بخلاف الظن؛ فيتعلق بالحال والاستقبال، فصح وقوع (أن) بعده. و{كلما}: ظرف لكذبوا أو يقتلون، و{كثير}؛ بدل من فاعل عموا وصموا. يقول الحقّ جلّ جلاله: {لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل} أن يعملوا بأحكام التوراة، {وأرسلنا إليهم رسلاً} يجددون العهد ويحثون على الوفاء به، ثم إنهم طغوا وعتوا؛ {كلما جاءهم رسول} من عند الله {بما لا تهوى أنفسهم} من الشرائع التي تخالف أهواءهم ومشاق الطاعة، {فريقًا} منهم كذبوهم {وفريقًا} يقتلونهم، أي: كذبوا فريقًا كداود وسليمان، وفريقًا قتلوهم بعد تكذيبهم كزكريا ويحيى، وقصدوا قتل عيسى عليه السلام فليس ما فعلوا معك ببعد منهم، فلهم سلف في ذلك. {وحسبوا} أي: ظنوا {ألا تكون فتنة} أي: لا يقع بهم بلاء وعذاب بقتل الأنبياء عليهم السلام، وتكذيبهم، {فعموا} عن أدلة الهدى، أو عن الدين، {وصموا} عن استماع الوعظ والتذكير، كما فعلوا حيث عبدوا العجل، {ثم تاب الله عليهم} لما تابوا، {ثم عموا وصموا} لما قتلوا الأنبياء وسفكوا الدماء، واستمر على ذلك {كثير منهم}، وقليل منهم بقوا على العهد {والله بصير بما يعملون} فيجازيهم وفق أعمالهم. الإشارة: لقد أخذ الله العهد على جميع بني آدم في شأن حمل الأمانة، التي حملها أبوهم آدم، وبعث الأنبياء والأولياء يجددون العهد في حملها، ويعرفون الناس بشأنها، وهي المعرفة الخاصة، التي هي شهود عظمة الربوبية في مظاهر العبودية، وحملها لا يكون إلا بمخالفة الهودى وخرق عوائد النفوس، ولا يطيقها إلا الخصوص، فلذلك كثر الإنكار على الأنبياء والأولياء؛ إذ لم يأت أحد بخرق العوائد إلا عودي وأنكر، فكلما جاءهم رسول أو ولي بما لا تهوي أنفسهم فريقًا منهم كذبوا وفريقًا يقتلون، وظنوا أن الله لا يعاقبهم على ذلك، ولا تصيبهم فتنة في قلوبهم على ما هنالك، فعموا عن مشاهدة أنوار الحق، وصموا عمن يذكرهم بالحق، وقد تلمع لهم تارة قبس من أنوارهم، فيتوبون، ثم يُصّرون على الإنكار. والله بصير بما يعملون.
{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ ُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)} يقول الحقّ جلّ جلاله: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم}، لِما رأوا على يديه من الخوارق، {وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم} المعنى: لقد كفر من اتخذ عيسى إلهًا مع أنه كان يتبرأ من هذا الاعتقاد، ويقول لبني إسرائيل: اعبدوا الله خالقي وخالقكم. والمشهور في الأخبار، أن النصارى هم الذين اعتقدوا هذا الاعتقاد دون بني إسرائيل، نعم، أصل دخول هذه الشبهة على النصارى من يهودي يقال له: بولس، حسدًا منه، وذلك أنه دخل في دينهم، وفرق أموالهم، وتأهب للتعبد معهم، ثم سار إلى بيت المقدس وقطّع نفسه تقربًا عند قبري مريم وعيسى عليهما السلام في زعمهم، وكان معه رجلان اسمهما: يعقوب وناسور، فأخذ يعلمهما ذلك الفساد ويقول لهما: عيسى هو الله أو ابن الله، فلما قطع نفسه صار الرجلان يُفشيان ذلك عنه، فشاع مذهب الرجلين، وكان منهما الطائفة اليعقوبية والناسورية. ثم هددهم على الشرك فقال، أي: عيسى: {إنه من يشرك بالله} في عبادته، أو فيما يختص به من الصفات والأفعال، {فقد حرم الله عليه الجنة} أي: يمنع من دخولها؛ لأنها دار الموحدين، {ومأواه النار} أي: محله النار. لأنها معدة للمشركين، {وما للظالمين من أنصار} أي: وما لهم أحد ينصرهم من النار. ووضع المظهر موضع المضمر، تسجيلاً على أنهم ظلموا بالإشراك، وعدلوا عن طريق الحق، وهو يحتمل أن يكون من تمام كلام عيسى عليه السلام، أو من كلام الله تعالى. ثم ذكر تعالى صنفًا آخر منهم، فقال: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة} أي: أحد ثلاثة، عيسى وأمه وهو ثالثهم، أو أحد الأقانيم الثلاثة، الأب والابن وروح القدس، يريدون بالأب الذات، وبالابن العلم، وبروح القدس الحياة، لكن في إطلاق هذا اللفظ إيهام وإيقاع للغير في الكفر، وهذه المقالة أعني التثليث، هي قوله النسطورية والملكانية، وما سبق في قوله: {إن الله هو المسيح} قول اليعقوبية، القائلة بالاتحاد، وكلهم ضالون مضلون، {وما من إله إلا إله واحد} في ذاته وصفاته وأفعاله، لا شريك له في ألوهيته، متصلاً ولا منفصلاً، {وإن لم ينتهوا عما يقولون}، ولم يوحدوا {ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم} أي: ليمس الذين بقوا منهم على الكفر ولم يتوبوا، عذاب موجع. {أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه} أي: أفلا يرجعون عن تلك العقائد الزائفة والأقوال الفاسدة، ويستغفرونه بالتوحيد والتوبة عن الاتحاد والحلول، فإن تابوا غفر الله لهم، {والله غفور رحيم}. وهذا الاستفهام: تعجب من إصرارهم، مع كون التوبة مقبولة منهم. ثم رد عليهم بقوله: {ما المسيح ابن مريم إلا رسول} بشر {قد خلت من قبله الرسل}، وخصه الله بآيات، كما خصهم بها، فإن كان قد أحيا الله الموتى على يديه، فقد أحيا العصى، وجعلها حية تسعى على يد موسى، بل هو أعجب، وإن كان قد خلقه الله من غير أب، فقد خلق آدم من غير أب وأم، وهو أغرب، {وأمه صديقة} فقط، كسائر النساء اللاتي يلازمن الصدق أو التصديق، {كانا يأكلان الطعام} ويفتقران إليه افتقار الحيوانات، قال البيضاوي: بيّن أولاً أقصى مالهما من الكمال، ودل أنه لا يوجب لهما ألوهية؛ لأن كثيرًا من الناس يشاركهما في مثله، ثم نبه على نقصهما، وذكر ما ينافي الربوبية ويقتضي أن يكون من عداد المركبات الكائنة الفاسدة، أي: القابلة للفساد، ثم عجب ممن يدعي الربوبية لهما مع أمثال هذه الأدلة الظاهرة، فقال: {انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنا يؤفكون} أي: كيف يُصرفون عن استماع الحق وتأمله، و{ثم} للتفاوت بين العجبين، أي: أن بياننا للآيات عجب، وإعراضهم عنها أعجب. ه. ثم أبطل عبادتهم لعيسى عليه السلام فقال: {قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرًّا ولا نفعًا} بل هو عاجز عن صرفه عن نفسه وجلب الخير لها، فكيف يقدر أن يدفعه عن غيره؟ وعبَّر عنه بما، دون {من} إشارة إلى أنه من جنس ما لا يعقل، وما كان مشاركًا في الحقيقة لجنس ما لا يعقل، يكون معزولاً عن الألوهية، وإنما قدّم الضر؛ لأن التحرز منه أهم من تحري النفع، ثم هددهم بقوله: {والله هو السميع العليم} بالأقوال والعقائد، فيجازي عليهما، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر. والله تعالى أعلم. الإشارة: ينبغي للعبد أن يصفي مشرب توحيده، ويعتني بتربية يقينة، بصحبة أهل اليقين، وهم أهل التوحيد الخاص، فيترقى من توحيد الأفعال إلى توحيد الصفات، ومن توحيد الصفات إلى توحيدات الذات، فنهاية توحيد الصالحين والعلماء المجتهدين تحقيق توحيد الأفعال، وهو ألاَّ يرى فاعلاً إلا الله، لا فاعل سواه، وثمرة هذا التوحيد: الاعتماد على الله، والثقة بالله، وسقوط خوف الخلق من قلبه، لأنه يراهم كالآلات، والقدرة تحركهم، ليس بيدهم نفع ولا ضرر، عاجزون عن أنفسهم فكيف عن غيرهم؟ ونهاية توحيد العباد والزهاد والناسكين المنقطعين إلى الله تعالى توحيد الصفات، فلا يرون قادرًا ولا مريدًا ولا عالمًا ولا حيًّا ولا سميعًا ولا بصيرًا ولا متكلمًا إلا الله، قد انتفت عنه صفات الحدث وبقيت صفات القدم. وثمرة هذا التوحيد: الانحياش من الخلق والتأنس بالملك الحق، وحلاوة الطاعات ولذيذ المناجات. ونهاية توحيد الواصلين من العارفين والمريدين السائرين: توحيد الذات؛ فلا يشهدون إلا الله، ولا يرون معه سواه. قال بعضهم: لو كلفت أن أرى غيره لم أستطع، فإنه لا غير معه حتى أشهده. وقال شاعرهم: مُذ عَرَفتُ الإله لَم أرَ غَيرًا *** وكَذَا الغَيرُ عِندَنَا مَمنُوعُ مُذ تَجَمَّعتُ مَا خَشيتُ افتِراقاً *** فَأنَا اليَومَ واصِلٌ مجمُوعُ وقال في التنوير: أبى المحقّقون أن يشهدوا مع الله سواه؛ لما حققهم به من شهود الأحدية وإحاطة القيومية. ه. وفي الحكم: «الأكوان ثابتة بإثباته، ممحوة بأحدية ذاته». وهؤلاء هم الصديقون المقربون. نفعنا الله بذكرهم، وخرطنا في سلكهم. آمين.
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)} يقول الحقّ جلّ جلاله: {يا أهل الكتاب} أي: النصارى، {لا تغلوا في دينكم} وتقولوا قولاً {غير الحق}؛ وهو اعتقادكم في عيسى أنه إله، أو أنه لغير رشدة، ولا تفرطوا، {ولا تتبعوا أهواء قوم} سلفوا قبلكم، وهم أئمتكم في الكفر، {قد ضلوا من قبل} أي: من قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم، {وأضلوا} أناسًا {كثيرًا}؛ حملوهم على الاعتقاد الفاسد في عيسى وأمه، فقلدوهم وضلوا معهم، {وضلوا عن سواء السبيل} أي: عن قصد السبيل المستقيم، وهو الإسلام بعد مبعثه صلى الله عليه وسلم، وقيل: الضلال الأول إشارة إلى ضلالهم عن مقتضى العقل، والثاني إشارة إلى ضلالهم عما جاء به الشرع. قاله البيضاوي. الإشارة: الغلو كله مذموم كما تقدم، وخير الأمور أوسطها، كما تقدم. وقد رخص في الغلو في ثلاثة أمور: أحدها: في مدح النبي صلى الله عليه وسلم فلا بأس أن يبالغ فيه ما لم يخرجه عن طور البشرية، وهذا غلو ممدوح، مقرب إلى الله تعالى، قال في بردة المديح: دع ما ادَّعَتهُ النَّصَارى في نَبيّهم *** واحكُم بما شِئتَ مَدحًا فيهِ واحتكَم الثاني: في مدح الأشياخ والأولياء، ما لم يخرجهم أيضًا عن طورهم، أو يغض من مرتبة بعضهم، فقد رخصوا للمريد أن يبالغ في مدح شيخه، ويتغالى فيه، بالقيدين المتقدمين؛ لأن ذلك يقربه من حضرة الحق تعالى. والثالث: في تعظيم الحق جل جلاله. وهذا لا قيد فيه ولا حصر. حدث عن البحر ولا حرج، إذا كان ممن يحسن العبارة ويتقن الإشارة، بحيث لا يوهم نقصًا ولا حلولاً. وبالله التوفيق.
{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)} يقول الحقّ جلّ جلاله: {لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود} أي: لعنهم الله في الزبور على لسان نبيه داود عليه السلام، {و} لعنهم الله أيضًا في الإنجيل على لسان {عيسى ابن مريم}، فالأول: أهل أيلَة؛ لما اعتدوا في السبت لعنهم داود عليه السلام، فمسخوا قردة وخنازير، والثاني أصحاب المائدة، لمّا كفروا دعا عليهم عيسى، ولعنهم، فمسخوا خنازير، وكانوا خمسة آلاف رجل، {ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون}؛ ذلك اللعن الشنيع المقتضى للمسخ بسبب عصيانهم واعتدائهم ما حَرُم عليهم. {كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه} أي: لا ينهى بعضهم بعضًا عن معاودة منكر فعلوه، أو عن منكر أرادوا فعله وتهيأوا له، أو: لا ينتهون عنه ولا يمتنعون منه، {لبئس ما كانوا يفعلون}، وهو تعجيب من سوء فعلهم مؤكد بالقسم. {ترى كثيرًا منهم} أي: من اليهود، {يتولون الذين كفروا} أي: يوالون المشركين بُغضًا للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، {لبئس ما قدمت لهم أنفسهم} أي: لبئس شيئًا قدموه، ليردوا عليه يوم القيامة، وهو {أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون} أي: بئس ما قدموا أمامهم، وهو سخط الله والخلود في النار، والعياذ بالله، {ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي} أي: نبيهم كما يزعمون، {وما أُنزل إليه} من التوراة وغيره، {ما اتخذوهم أولياء}؛ لأن النبي لا يأمر بموالاة الكفار، ولو آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل إليه كما هو الواجب عليهم ما اتخذوا الكفار أولياء، {ولكن كثيرًا منهم فاسقون} أي: خارجون عن دينهم، أو خارجون عن الدين الحق الذي لا يقبل غيره، وهو الإسلام. الإشارة: ذكر الحق جل جلاله في هذه الآية ثلاثة أمور، وجعلها سببًا للعن والطرد، وموجبة للسخط والمقت، أولها: الانهماك في المعاصي والعدوان، والإصرار على الذنوب والطغيان. والثاني عدم الإنكار على أهل المعاصي والسكوت عنهم والرضا بفعلهم، والثالث: موالاة الفجار والمودة مع الكفار، ولو كانوا آباءهم أو إخوانهم أو أزواجهم أو عشيرتهم، وفي بعض الأخبار: (لو أن رجلاً قام الليل وصام النهار، ثم تودد مع الفجار لبعث معهم، ولو أن رجلاً عمل بالمعاصي ما عمل، ثم أحب الأبرار لحُشر معهم)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، ويعضده حديث: «المَرءُ مَعَ مَن أحبَّ» والله تعالى أعلم.
{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)} قلت: القسيس: العالم، والراهب، العابد، و{مما عرفوا}: سببية، و{من الحق}: بيان أو تبعيض، وجملة: {لا نؤمن}: حال، والعامل فيها متعلق الجار، أي: أي شيء حصل لنا حال كوننا غير مؤمنيين، و{نطمع}: عطف على {نؤمن}، أو خبر عن مضمر، أي: ونحن نطمع. يقول الحقّ جلّ جلاله: {لتجدن أشد الناس عداوة} للمؤمنين؛ اليهود والمشركين، لشدة شكيمتهم وتضاعف كفرهم، وانهماكهم في اتباع الهوى، وركونهم إلى التقليد، وبعدهم عن التحقيق، وتمرنهم على تكذيب الأنبياء، ومعاداتهم وعدوانهم لا ينقطع إلى الأبد. {ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى}، للين جانبهم، ورقة قلوبهم، وقلة حرصهم على الدنيا بالنسبة لليهود، وكثرة اهتمامهم بالعلم والعمل، وإليه أشار بقوله: {ذلك بأن منهم قسيسين} أي: علماء، ومن جملة علمهم: علمُهم بوصاية عيسى بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، {ورهبانًا} أي: عبادًا، {وأنهم لا يستكبرون} عن قبول الحق إذا عرفوه، بخلاف اليهود؛ لكثرة جحودهم، وفيه دليل على أن التواضع والإقبال على العلم والعمل محمود، وإن كان من كافر. قاله البيضاوي. {وإذا سمعوا ما أُنزل إلى الرسول} محمد صلى الله عليه وسلم {ترى أعينهم تفيض من الدمع}؛ من البكاء، جعل أعينهم من فرط البكاء كأنها تفيض بأنفسها، وإنما يفيض دمعها، وذلك {مما عرفوا من الحق} حين سمعوه، أو من بعض الحق، فما بالك لو عرفوا كله؟ {يقولون ربنا آمنا} بذلك، أو بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ {فاكتبنا مع الشاهدين} بأنه حق، أو بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، أو من أمته الذين هم شهداء على الأمم. نزلت في النجاشي وأصحابه، حين دعوا جعفرًا وأصحابه، وأحضروا القسيسين والرهبان، وأمره أن يقرأ عليهم القرآن، فقرأ سورة مريم، فبكوا وآمنوا بالقرآن. وقيل: نزلت في ثلاثين أو سبعين رجلاً من قومه، وفدوا من عنده من الحبشة بأمره على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ عليهم سورة {يَس}، فبكوا وآمنوا، فصدر الآية عام، فالنصارى كلهم أقرب مودة للمسلمين، من آمن، ومن لم يؤمن، وإنما جاء التخصيص في قوله: {وإذا سمعوا}، فالضمير إنما يرجع إلى من آمن منهم، كالنجاشي وأصحابه. وإنما جاء الضمير عامًا؛ لأن الجماعة تحمد بفعل الواحد. انظر ابن عطية. ولما دخل الإيمان في قلوبهم حين سمعوا القرآن، عاتبوا أنفسهم على التأخر عن الإيمان فقالوا: {وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق} {و} نحن {نطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين}، وهي أمة محمد صلى الله عليه وسلم التي هي أفضل الأمم، وهذا منهم استفهامُ إنكار واستبعاد؛ لانتفاء الإيمان مع قيام الداعي، وهو الطمع في الانخراط مع الصاحلين، والدخول في مداخلهم، {فأثابهم الله} أي: جازاهم {بما قالوا} واعتقدوا، {جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين} الذين اعتادوا الإحسان في جميع الأمور، أو الذين أحسنوا النظر وأتقنوا العمل. ثم ذكر ضدهم فقال: {والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم}، شفع بهم حال المؤمنين المصدقين، جمعًا بين الترغيب والترهيب، ليكون العبد بين خوف ورجاء. والله تعالى أعلم. الإشارة: أشد الناس إنكارًا على الفقراء، وأشدهم عداوة لهم، من تقدم في أسلافه رئاسة علم أو جاه أو صلاح أو نسبة شرف، وأقرب الناس مودة لهم من لم يتقدم له شيء من ذلك، فالعوام أقرب وأسهل للدخول في طريق الخصوص من غيرهم. والله تعالى أعلم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)} يقول الحقّ جلّ جلاله: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله} أي: لا تحرموا ما طاب ولذ مما أحله الله لكم، {ولا تعتدوا} فتحرموا ما أحللت لكم، ويجوز أن يراد: ولا تعتدوا حدود ما أحل لكم إلى ما حرم عليكم، فتكون الآية ناهية عن تحريم ما أحل وتحليل ما حرم، داعية إلى القصد بينهما، والوقوف على ما حد دون التجاوز إلى غيره. رُوِي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصَفَ القِيامَة يومًا، وبالغ في إنذارهم، فَرَقوا، واجتمعوا في بيت عُثمان بن مظعون، واتفقوا على ألا يزالوا صائمين قائمين، وألا يناموا على الفُرُش، ولا يأكُلوا اللحمَ والودَك، ولا يَقربُوا النساء والطَّيبَ، ويَرفضُوا الدُنيا، ويلَبسُوا المُسوح، ويَسيحُوا في الأرض، ويَجُبُّوا مَذَاكِرَهم، فَبلَغ ذلك رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم «إني لم أُومر بذلكَ، إنَّ لأنفُسِكُم عَليكُم حقًا، فصُومُوا وأفطِرُوا، وقُومُوا ونَاموا، فإنِّي أقُومُ وأنام، وأصُوم وأُفطِر، وآكُلُ اللحم والدَّسم، وآتى النساء، فَمَن رَغِبَ عن سُنتي فَليس مني» ونزلت الآية. ثم قال تعالى: {وكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيبًا} أي: كلوا ما حل لكم وطاب مما رزقكم الله، {واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون}؛ فأحلوا حلاله واستعملوه، وحرموا حرامه واجتنبوه. الإشارة: طريقةُ العباد والزهاد: رفض الشهوات والملذوذات بالكلية، زهدًا وورعًا وخوفًا من اشتغال النفس بطلبها، فيتعطل وقتهم عن العبادة، وطريقة المريدين السائرين: رفض ما تتعلق به النفس قبل الحصول، وتشره إليه رياضة وتعففًا، لئلا تتعلق هِممُهم بغير الله، فما جاءهم من غير طلب ولا شره أكلوه وشكروا الله عليه، ولا يقفون مع جوع ولا شبع. وطريقة الواصلين العارفين: تجنب ما يقبض من غير يد الله، فإذا أخذتهم سنة حتى غفلوا عن التوحيد فقبضوا شيئًا، مع رؤية الواسطة، أخرجوه عن ملكهم، كما وقع لأبي مدين رضي الله عنه ويأخذون ما سوى ذلك قَلّ أو كثر، ولا يقفون مع أخذ ولا ترك، وفي الحكم: «لا تمدن يديك إلى الأخذ من الخلائق، إلا أن ترى أن المعطي فيهم مولاك، فإن كنت كذلك فخذ ما وافقك العلم».
{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)} قلت: {في أيمانكم}: يتعلق باللغو، أو بيؤاخذكم. يقول الحقّ جلّ جلاله: {لا يُواخذكم الله باللغو في أيمانكم} وهو ما يصدر من الإنسان بلا قصد، كقوله: لا والله، وبلى والله. وإليه ذهب الشافعي، وقيل: هو الحلف على ما يظن أنه كذلك ولم يكن، وإليه ذهب مالك وأبو حنيفة، {ولكن يُؤاخذكم بما عقدتم الإيمان} عليه، أي: بما جزمتم عليه بالنية والقصد، {فكفارته} أي: ما عقدتم عليه إذا حلفتم، ويجوز التكفير قبل الحنث لظاهر الآية. ثم بيَّن الكفارة، فقال: {إطعام عشرة مساكين}، فمن أطعم غنيًا لم تجزه، واشترط مالك أن يكونوا أحرارًا، وليس في الآية ما يدل على ذلك، ثم بيَّن نوعه فقال: {من أوسط ما تُطعمون أهليكم} أي: من وسط طعام أهليكم في القدر أو في الصفة، أما القدر فقال مالك: يطعم مُدًا لكل مسكين بمد النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان في المدينة المشرفة، وفي غيرها وسط من الشبع، وقال الشافعي وابن القاسم: يجزىء المُد في كل مكان، وقال أبو حنيفة: إن غذاهم وعشاهم أجزأه. قلت: وهو قول في المدونة لمالك أيضًا. وأما الصنف، فاختلف: هل يطعم من عيش نفسه، أو من عيش بلده وهو المشهور؟ فمعنى الآية على هذا: {من أوسط ما تطعمون} أيها الناس {أهليكم} على الجملة {أو كسوتهم}؛ فيكسو كل مسكين ما نصح به الصلاة، فالرجل ثوب، والمرأة قميص وخمار، {أو تحرير رقبة} مؤمنة على مذهب مالك؛ لتقييدها بذلك في كفارة القتل. وأجاز أبو حنيفة عتق الكافر، لإطلاق اللفظ هنا، واشترط مالك أيضًا أن تكون مسلمة من العيوب، وليس في الآية ما يدل عليه، فهذه الثلاثة بالتخيير. {فمن لم يجد} واحدًا من هذه الثلاثة، ولم يقدر على شيء منها، بحيث لم يفضل له عن قوته وقوت عياله في يومه ما يطعم به، {فصيام ثلاثة أيام} يستحب تتابعها، اشترطه أبو حنيفة؛ لأنه قرىء: (أيام متتابعات)، والشاذ ليس بحجة، {ذلك} المذكور هو {كفارة أيمانكم إذا حلفتم} وحنثتم، {واحفظوا أيمانكم} أي: صونوا ألسنتكم عن كثرة الحلف، فيكون الله عرضة لأيمانكم، أو احفظوها بأن تبروا فيها ولا تحنثوا، إلا إن كان في الامتناع من الخير، فالحنث فيها أحسن، كما في الحديث. أو احفظوها بأن تكفروها إذا حنثتم، ولا تتهاونوا بها، {كذلك يُبيّن الله لكم آياته} أي: مثل ذلك البيان يُبين لكم أعلام شرائعه {لعلكم تشكرون} نعمة التعليم، أو نعمه الواجب شكرها، فإن مثل هذا التبيين يُسهل لكم المخرج من ضيق اليمين، فهو نعمة يجب شكرها. والله تعالى أعلم. الإشارة: ليس التشديد والتعقيد من شأن أهل التوحيد، إنما شأنهم الاسترسال مع ما يبرز من عنصر القدرة، ليس لهم وقت دون الوقت الذي هم فيه، قد حلّ التوحيد عُقدهم ودكّ عزائمهم، فهم في عموم أوقاتهم لا يدبرون ولا يختارون، وإن وقع منهم تدبير أو اختيار رجعوا إلى ما يفعل الواحد القهار، لا يبطشون إلى شيء ولا يهربون من شيء، إلا إن كان فيه مخالفة للشرع. ولا يعقدون على ترك شيء من المباحات ولا على فعله، لأنهم لا يرون لأنفسهم فعلاً ولا تركًا، إن صدرت منهم طاعة شهدوا المنّة لله، وإن وقعت منهم زلّة أو غفلة تأدبوا مع الله، وبادروا بالتوبة إلى الله، وما صدر من الصحابة رضوان الله عليهم فلعل ذلك كان حالاً غالبة عليهم، قد أزعجهم وعظ النبي صلى الله عليه وسلم، وأنهضهم حاله، فلما رآهم غلب عليهم الحال ردّهم إلى حال الاعتدال، ولعل الحق جل جلاله، إنما جعل كفّارة اليمين جبرًا لخلل ذلك التعقيد، الذي صدر من الحالف مع تفريطه بالحنث، فكأنه حلف على فعل غيره، ففيه نوع من التألي على الله. والله تعالى أعلم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92)} قلت: {رجس} خبر، وأفرده؛ لأنه على حذف مضاف، أي: تعاطي الخمر، أو خبر عن الخمر، وخبر المعطوفات محذوف، أي: كذلك. يقول الحقّ جلّ جلاله: {يا أيها الذين آمنوا إنما} تناول {الخمر}؛ وهو كل ما غيب العقل، دون الحواس، مع النشوة والطرب، {والميسر} وهو القمار {والأنصاب} وهو ما نصب ليُعبد من حجارة أو خشب، {والأزلام} أي: الاستقسام بها، وقد تقدم تفسيرها، {رجس} قذر خبيث تعافه العقول السليمة، {من عمل الشيطان} أي: من تسويله وتزيينه، {فاجتنبوه} أي: ما ذكر من تعاطي الخمر، وما بعده، {لعلكم تفلحون} أي: تفوزون بالرضوان والنعيم المقيم. قال البيضاوي: اعلم أن الحق تالى أكد تحريم الخمر والميسر في هذه الآية، بأن صدّر الجملة بإنما، وقرنها بالأنصاب والأزلام وسماهما رجسًا، وجعلهما من عمل الشيطان، تنبيهًا على أن الاشتغال بهما شر محض، وأمر بالاجتناب عن عينهما، وجعله سببًا يرجى منه الفلاح، ثم قرّر ذلك بأن بيّن ما فيهما من المفاسد الدنيوية والدينية المقتضية للتحريم فقال: {إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيطَانُ أن يُوقِعَ بَينَكُمُ العَدَاوَةَ وَالبغضَاءَ فِي الخَمرِ وَالمَيسِرِ}، وقد وقع ذلك في زمن الصحابة، وهي كانت سبب تحريمه، {ويصدّكم عن ذكر الله وعن الصلاة}؛ إنما خصّ الخمر والميسر بإعادة الذكر وشرح ما فيهما من الوبال تنبيهًا على أنهما المقصودان بالبيان. وذكر الأنصاب والأزلام للدلالة على أنهما مثلهما في الحرمة والشرارة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «شَارِبُ الخَمرِ كَعَابِد الوَثَنِ». وخصّ الصلاة من الذكر بالإفراد؛ للتعظيم والإشعار بأن الصاد عنها كالصاد عن الإيمان؛ من حيث إنها عماده، والفارق بينه وبين الكفر، ثم أعاد الحث على الانتهاء بصيغة الاستفهام مرتبًا على ما تقدم من أنواع الصوارف فقال: {فهل أنتم منتهون} ؟ إيذانًا بإن الأمر في المنع والتحذير بلغ الغاية، وأن الأعذار قد انقطعت. ه. ولذلك لما سمعها الفاروق رضي الله عنه حين نزلت، قال: (قد انتهينا يا ربنا). وبهذا الآية وقع تحريم الخمر، وقد كان حلالاً قبلها، بدليل سكوته صلى الله عليه وسلم على شربها قبل نزول الآية، فإن قلت: حفظ العقول من الكليات الخمس التي اتفقت الشرائع على تحريمها؟ قلنا: لا حكم قبل الشرع، بل الأمر موقوف إلى وروده، ولما طالت الفترة، وانقطعت الشرائع عند العرب، رجعت الأشياء إلى أصلها من الإباحة بمقتضى قوله تعالى: {خَلَقَ لَكُم مَّا في الأَرْضِ جَمِيعًا} [البَقَرة: 29]، حتى جاءت الشريعة المحمدية فحرمتها كالشرائع قبلها، فكانت حينئٍذ حرامًا، ودخلت في الكليات الخمس التي هي: حفظ العقول والأبدان والأموال والأنساب والأديان. ثم أكد ذلك أيضًا بقوله: {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول} فيما أمر ونهى {واحذروا} غضبهما إن خالفتم، {فإن توليتم} أو أعرضتم عن طاعتهما {فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين}؛ لا تضرّه مخالفتكم، إنما عليه البلاغ وقد بلغ. الإشارة: المقصود هو النهي عن كل ما يصد عن الله أو يشغل العبد عن شهود مولاه، وخص هذه الأربعة، لأنها أمهات الخطايا ومنبع الغفلة والبلايا، فالخمر فيه فساد العقل الذي هو محل الإيمان، والميسر فيه فساد المال وفساد القلب بالعداوة، والشحناء، وفساد الفكر لاستعماله في الهوى، والأنصاب فيه فساد الدين الذي هو رأس المال، والأزلام فيه الفضول والاطلاع على علم الغيب، الذي هو سر الربوبية، وهو موجب للمقت والعطب، والعياذ بالله.
{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآَمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)} يقول الحقّ جلّ جلاله: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح} أي: إثم {فيما طعموا} من الخمر والميسر قبل التحريم، {إذا ما اتقوا} أي: إذا اتقوا الشرك، {وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا} المحرمات {وآمنوا} أي: حققوا مقام الإيمان، {ثم اتقوا} الشبهات والمكروهات {وأحسنوا} أي: حصلوا مقام الإحسان، وهو إتقان العبادة، وتحقيق العبودية، ومشاهدة عظمة الربوبية، {والله يحب المحسنين} أي: يقربهم ويصطفيهم لحضرته، رُوِي أنه لما نزل تحريم الخمر، قالت الصحابة رضي الله عنهم: يا رسول الله؛ فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر؟ فنزلت. ويحتمل أن يكون هذا التكرير باعتبار الأوقات الثلاثة، أي: الماضي والحال والاستقبال، أو باعتبارات الحالات الثلاثة. فيستعمل التقوى فيما بينه وبين نفسه بالتزكية والتحلية، وفيما بينه وبين الناس بالكف عن التعرض لهم، وفيما بينه وبين الله بامتثال أمره واجتناب نهيه والغيبة عن غيره، ولذلك بدل الإيمان بالإحسان في الكرة الثالثة، أو باعتبار المراتب الثلاثة؛ المبدأ والوسط والنهاية، أو باعتبار ما يُتقى، فإنه ينبغي أن يتقي المحرمات توقيًا من العقاب، ثم يتقي الشبهات تحفظًا من الحرام، ثم يتقي بعض المباحات تحفظًا للنفس عن خسة الشره، وتهذيبًا لها عن دنس الطبيعة، قال معناه البيضاوي. الإشارة: المقامات التي يقطعها المريد ثلاث: مقام الإسلام، ومقام الإيمان، ومقام الإحسان، فما دام المريد مشتغلاً بالعمل الظاهر؛ من صلاة وصيام وذكر اللسان، سُمي مقام الإسلام، فإذا انتقل لعمل الباطن من تخلية وتحلية وتهذيب وتصفية، سُمي مقام الإيمان، فإذا انتقل لعمل باطن الباطن من فكرة ونظرة وشهودة وعيان سمي مقام الإحسان، وهذا اصطلاح الصوفية؛ سموا ما يتعلق بإصلاح الظواهر: إسلامًا، وما يتعلق بإصلاح القلوب والضمائر، إيمانًا، وما يتعلق بإصلاح الأرواح والسرائر: إحسانًا. وجعل الساحلي في البغية كل مقام مركبًا من ثلاثة مقامات، فالإسلام مركب من التوبة والتقوى والاستقامة، والإيمان مركب من الإخلاص والصدق والطمأنينة، والإحسان مركب من مراقبة ومشاهدة ومعرفة. وأطال الكلام في كل مقام، لكن من سقط على شيخ التربية لم يحتج إلى شيء من هذا التفصيل. وبالله التوفيق.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)} قلت: {فجزاء}: مبتدأ، والخبر محذوف، أي: فعليه جزاء، أو خبر عن مبتدأ محذوف، أي: فواجبه جزاء، و{مثل}: صفته، و{من النعم}: صفة ثانية لجزاء، أي: فعلية جزاء مماثل حاصل من النعم، ومن قرأ {مثل} بالجر، فعلى الإضافة، من إضافة المصدر إلى المفعول، أي: فعليه أن يجزي مثل ما قتل، أو يكون {مثل} مقحمة كما في قولهم: مثلى لا يقول كذا. وقرىء بالنصب، أي: فليجزأ جزاء مماثلاً. وجملة {يحكم} صفة لجزاء أيضًا، أو حال من ضمير الخبر. و {هَديًا}: حال من ضمير {به}، أو من جزاء؛ لتخصيصه بالإضافة أو الصفة فيمن نون، و{بالغ}: صفة للحال، أو بدل من مثل باعتبار محله، أو لفظه فيمن نصبه، أو {كفارة} عطف على {جزاء} إن رفعته، وإن نصبت جزاء فهو خبر، أي: وعليه كفارة، و{طعام مساكين}: عطف بيان، أو بدل منه، أو خبر عن محذوف، أي: هي طعام، ومَن جرّ طعامًا فبالإضافة للبيان، كقوله: خاتم فضة، أو {عدل} عطف على {طعام} فيمن رفعه، أو خبر فيمن جره، أي: عليه كفارة طعام، أو عليه عدل ذلك، و{ليذوق}: متعلق بمحذوف، أي: فيجب عليه الجزاء أو الطعام أو الصوم ليذوق سوء عاقبة فعله، و{متاعًا لكم}: مفعول من أجله، و{حُرُمًا}: حال، أي: ما دمتم محرمين، أو خبر دام على النقص، ويقال: دام يدوم دُمت، كقال يقول قلت: ودام يَدام دِمت، كخاف يخاف خفت. وبه قٌرىء في الشاذ. يقول الحقّ جلّ جلاله: {يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم} أي: والله ليختبرنكم {الله بشيء} قليل {من الصيد} يسلطه عليكم وَيُذَلِّلُهُ لكم حتى {تناله أيديكم} بالأخذ {ورماحكم} بالطعن {ليعلم الله} علم ظهور وشهادة تقوم به الحجة، {من يخافه بالغيب} فيكف عن أخذه حذرًا من عقاب ربه، نزل عام الحديبية، ابتلاهم الله بالصيد، كانت الوحوش تغشاهم في رحالهم، بحيث يتمكنون من صيده، أخذًا بأيديهم وطعنًا برماحهم، وهم مُحرمون، وكان الصيد هو معاش العرب ومستعملاً عندهم، فاختبروا بتركه مع التمكن منه، كما اخُتبر بنو إسرائيل بالحوت في السبت. وإنما قلَّلَهُ بقوله: {بشيء من الصيد} إشعارًا بأنه ليس من الفتن العظام كبذل الأنفس والأموال، وإنما هو من الأمور التي يمكن الصبر عنها، فمن لم يصبر عنده فكيف يصبر بما هو أشد منه؟ {فمن اعتدى بعد ذلك} الابتلاء بأن قتل بعد التحريم، {فله عذاب أليم} في الآخرة، لأن من لا يملك نفسه من مثل هذه فكيف يملكها فيما تكون النفس فيه أميل وعليه أحرص؟!. ثم صرح بالحرمة، فقال: {يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} أي: محرمون جمع حَرَم، والمراد من دخل في الإحرام أو في الحرم، وذكر القتل ليفيد العموم، فيصدق بالذبح وغيره، وما صاده المحرم أو صيد له ميتةٌ لا يؤكل، والمراد بالصيد المنهي عن قتله: ما صيد وما لم يُصَد مما شأنه أن يصاد، وورد هنا النهي عن قتله قبل أن يصاد، وبعده، وأما النهي عن الاصطياد فيؤخذ من قوله: {وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حُرمًا}، وخصص الحديث: الغراب والحدأة، والفأرة والعقرب والكلب العقور، فلا بأس بقتلهم، في الحل والحرم، وأدخل مالك في الكلب العقور كل ما يؤذي الناس من السباع وغيرها، وقاس الشافعي على هذه الخمسة كل ما لا يؤكل لحمه. ثم ذكر جزاء قتله فقال: {ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل من النَّعَم} أي: فعليه جزاء مثل ما يماثله من النعم، وهي الإبل والبقر والغنم، ففي النعامة بدنةَ، وفي الفيل ذات سنامين، وفي حمار الوحش وبقره بَقَرة، وفي الغزالة شاة، فالمثلية عند مالك والشافعي في الخلِقة والمقدار، فإن لم يكن له مثلٌ؛ أطعم أو صام، يُقوّم بالطعام فيتصدق به، أو يصوم لكل مدِّ يومًا، ومَذهب أبي حنيفة أن المثلية: القيمة، يُقوم الصيد المقتول، ويُخير القاتل بين أن يتصدق بالقيمة أو يشتري بها من النعم ما يهديه. وذكر العمد ليس بتقييد عند جمهور الفقهاء، خلافًا للظاهرية؛ بل المتعمد، والناسي في وجوب الجزاء سواء، وإنما ذكره ليرتب عليه قوله: {ومن عاد فينتقم الله منه}، ولأن الآية نزلت فيمن تعمد، إذ رُوِي أنهم عرض لهم حمار وحشي، فطعنه أبو اليسر برمحه فقتله، فنزلت الآية. ولا بد من حكم الحكَمين على القاتل لقوله: {يَحكم به ذوا عدل منكم}، فكما أن التقويم يحتاج إلى نظر واجتهاد، فكذلك تحتاج المماثلة في الخلقة والهيأة إليهما، فإن أخرج الجزاء قبل الحكم عليه؛ فعليه إعادته، إلا حمام مكة؛ فإنه لا يحتاج إلى حكمين، ويجب عند مالك التحكيم فيما حكمت به الصحابة وفيما لم تحكم، لعموم الآية. وقال الشافعي: يكتفي في ذلك بما حكمت به الصحابة، حال كون المحكوم به {هديًا} بشرط أن يكون مما يصح به الهدي، وهو الجذع من الضأن، والثني مما سواه، وقال الشافعي: يخرج المثل في اللحم، ولا يشترط السن، {بالغ الكعبة} لم يرد الكعبة بعينها، وإنما أراد الحرم، وظاهره يقتضي أن يصنع به ما يصنع بالهدي؛ من سوق من الحل إلى الحرم، وقال الشافعي وأبو حنيفة: إن اشتراه في الحرم أجزأه. {أو كفارة طعام مساكين}؛ مد لكل مسكين، {أو عدل ذلك صيامًا}، يوم لكل مد، عدد الحق تعالى ما يجب في قتل الصيد، فذكر أولاً الجزاء من النعم، ثم الطعام، ثم الصيام، ومذهب مالك والجمهور: أنها على التخيير، وهو الذي يقتضيه العطب بأو، ومذهب ابن عباس أنها مرتبة. وقد نظم ابن غازي الكفارات التي فيها التخيير أو الترتيب؛ فقال: خَيَّر بِصَومٍ ثَمَّ صَيدٍ وَأذَى *** وقُل لِكُلَّ خَصلَةٍ: يا حَبَّذا وَرَتِّب الظِّهارَ والتَّمَتُّعا *** وَالقَتلَ ثَمّ في اليَمِينِ اجتَمَعَا وكيفية التخيير هنا: أن يخير الحكمان القاتلَ؛ فإن أراد الجزاء عينوا له ما يهدي، وإن أراد الإطعام قوموا الصيد بالطعام في ذلك المحل، فيطعم مُدًا لكل مسكين، وإن أراد الصيام صام يومًا لكل مُدّ، وكمل لكسره، فإذا قوم بعشرة مثلاً ونصف مُدّ، صام أحد عشر يومًا. ثم ذكر حكمة الجزاء، فقال: {ليذوق وبال أمره} أي: فعليه الجزاء أو الإطعام أو الصيام؛ ليذوق عقوبة سوء فعله، وسوء هتكه لحرمة الإحرام، {عفا الله عما سلف} في الجاهلية أو قبل التحريم، {ومن عاد فينتقم الله منه} في الآخرة، وليس فيه ما يمنع الكفارة على العائد، كما حكى عن ابن عباس وشريح. {والله عزيز ذو انتقام} ممن أصر على عصيانه. ثم استثنى صيد البحر فقال: {أُحل لكم صيد البحر} وهو ما لا يعيش إلا في الماء، وهو حلال كله لقوله صلى الله عليه وسلم في البحر: «هُو الطَّهُورُ ماَؤهُ، الحِلُّ مَيتَتُه» وقال أبو حنيفة: لا يحل منه إلا السمك، {وطعامه} أي: ما قذفه، أو طفا على وجهه؛ لأنه ليس بصيد إنما هو طعام، وقال ابن عباس: طعامه: ما مُلِّح وبقي، {متاعًا لكم وللسيارة}، الخطاب بلكم للحاضرين في البحر، والسيارة: المسافرون في البر، أي: هو متاع تأتِدمون به في البر والبحر، {وحُرم عليكم صيد البر} يحتمل أن يريد به المصدر، أي الاصطياد، أو الشيء المصيد، أو كلاهما، وتقدم أن ما صاده محرم أو صيد له، ميتة، وحد الحرمة: {ما دمتم حُرمًا} فإذا حللتم فاصطادوا، {واتقوا الله} في ترك ما حرم عليكم، {والذي إليه تحشرون} فيجازيكم على ما فعلتم. الإشارة: إذا عقد المريد مع الله عقدة السير والمجاهدة، قد يختبره الله تعالى في سيره بتيسير الشهوات، وتسليط العلائق والعوائق؛ ليعلم الكاذب من الصادق، فإن كف عنها وأعرض، هيأ لدخول الحضرة، وإن انهمك فيها، واقتُنص فيه شبكتها، بقي مرهونًا في يدها، أسيرًا في قبضة قهرها، فإذا نهض حتى دخل حرم الحضرة قاصدًا لعرفة المعارف، حَرُم عليه صيد البر، وهو كل ما يخرج من بحر الحقيقة إلى شهود بَر السِّوى، فرقًا بلا جمع، كائنًا ما كان، رسومًا أو علومًا أو أحوالاً أو أقوالاً، وحلّ له صيد البحر وطعامه، من أسرارِ أو أنوارِ أو حقائق، متاعًا لروحه وسره، وللسيارة من أبناء جنسه، يطعمهم من تلك الأسرار، بالهمة أو الحال أو التذكار، واتقوا الله في الاشتغال بما سواه، الذي إليه تحشرون، فيدخلكم جنة المعارف قبل جنة الزخارف. والله تعالى أعلم.
{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99)} قلت: {البيت الحرام}: عطف بيان على جهة المدح، و{قيامًا}: مفعول ثان. يقول الحقّ جلّ جلاله: {جعل الله الكعبة} التي هي {البيت الحرام قيامًا للناس} أي: سبب انتعاشهم، يقوم بها أمر معاشهم ومعادهم، يلوذ به الخائف، ويأمن فيه الضعيف، ويربَحُ فيه التجار، ويتوجه إليه الحجاج والعُمار، أو يقوم به أمر دينهم بالحج إليه، وأمر دنياهم بِأمنِ داخله، وتُجبى ثمرات كل شيء إليه. قال القشيري: حكَم الله سبحانه بأن يكون بيته اليومَ ملجأ يلوذ به كل مُؤمّل، ويستقيم ببركة زيارته كلُّ حائدٍ عن نهج الاستقامة، ويظفر بالانتقال هناك كل ذي أرَبٍ. ه. {والشهر الحرام} جعله الله أيضًا قيامًا للناس؛ والمراد به ذو الحجة، فهو قيام لمناسك الحج، وجَمعِ الوجود إليه بالأموال من كل جانب، أو الجنس، وهي أربعة: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، لأنهم كانوا يكفون عن القتال، ويأمن الناس فيها في كل مكان، {والهدي}؛ لأنه أمان لمن يسوقه؛ لأنه لم يأت لحرب، {والقلائد}، كان الرجل إذا خرج يريد الحج تقلد شيئًا من السمُر، وإذا رجع تقلد شيئًا من شجر الحرم؛ ليعلم أنه كان في عبادة، فلا يتعرض له أحد بشر، فالقلائد هنا: ما تقلده المحرم من الشجر، وقيل: قلائد الهدى. {ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض} أي: جعل ذلك الأمور، قيامًا للناس؛ لتعلموا أن الله يعلم تفاصيل الأمور، فشرع ذلك دفعًا للمضار وجلبًا للمنافع، {وأن الله بكل شيء عليم} لا يخفى عليه محل مصالح عباده ومضارهم، وهو تعميم بعد تخصيص، ومبالغة بعد إطلاق. ثم قال تعالى: {اعلموا أن الله شديد العقاب} لمن عصاه، {وأن الله غفور رحيم} لمن أطاعه وأقبل عليه، وهو وعيد ووعد لمن انتهك محارمه ولمن حافظ عليها، أو لمن أصرّ ورجع، {ما على الرسول إلا البلاغ} وقد بلّغ، فلم يبق عذر لأحد، وهو تشديد في إيجاب القيام بما أمر، {والله يعلم ما تبدون وما تكتمون} من تصديق وتكذيب وفعل وعزيمة. الإشارة: كما جعل الله الكعبة قيامًا للناس، يقوم به أمر دينهم ودنياهم، جعل القلوب، التي هي كعبة الأنوار والأسرار، قيامًا للسائرين، يقوم بها أمر توحيدهم ويقينهم، أو أمر سيرهم ووصلوهم. وفي الحديث: «إنَّ في الجسدِ مُضغةً إذا صلَحَت صلُحَ الجسدُ كلُّهُ وإذا فَسددَت فَسدَ الجَسدُ كلُّه؛ ألاَ وَهي القَلبِ» وكما جعل الشهر الحرام والهدى والقلائد حرمة لأهلها، جعل النسبة والتزيي بها حفظًا لصاحبها، من تزيا بزي قوم فهو منهم، يجب احترامه وتعظيمه لأجل النسبة، فإن كان كاذبًا فعليه كذبه، وإن يك صادقًا يصبكم بعض الذي يعدكم، وقد أخذ اللصوص بعض الفقراء، وانتهكوا حرمته، وأخذوا ثيابه، فاشتكى لشيخه فقال له: هل كانت عليك مرقعتك؟ قال: لا، فقال له: أنت فرطت؛ والمفرط أولى بالخسارة. ه. والله تعالى أعلم.
{قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)} يقول الحقّ جلّ جلاله: {قل لا يستوي الخبيث والطيب} عند الله، في القلوب والأحوال والأعمال والأموال والأشخاص، فالطيب من ذلك كله مقبول محبوب، والرديء مردود ممقوت، فالطيب مقبول وإن قلّ، والرديء مردود ولو جلّ، وهو معنى قوله: {ولو أعجبك كثرة الخبيث}، فالعبرة بالجودة والرداءة، دون القلة والكثرة، وقد جرت عادته تعالى بكثرة الخبيث من كل شيء، وقلة الطيب من كل شيء، قال تعالى: {وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ} [صَ: 24]، {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ} [سَبَأ: 13]، وفي الحديث الصحيح: «النّاسُ كإبلٍ مِائةٍ لا تكادُ تَجِدُ فيها رَاحِلةَ»، وقال الشاعر: إنّي لأفتَحُ عَينِيَ حِينَ أفتَحُها *** عَلَى كُثِيرٍ ولكن لا أرى أحَدا فأهل الصفا قليل في كل زمان، ولذلك خاطبهم بقوله: {فاتقوا الله يا أولي الألباب} أي: القلوب الصافية في تجنب الخبيث وإن كثر، وأخذ الطيب وإن قلّ، {لعلكم تُفلحون} بصلاح الدارين. الإشارة: لا عبرة بالأحوال الظلمانية وإن كثرت، وإنما العبرة بالأحوال الصافية ولو قلّت، صاحب الأحوال الصافية موصول، وصاحب الأحوال الظلمانية مقطوع، ما لم يتب عنها، قال بعض الحكماء: (كما لا يصح دفن الزرع في أرض ردية، لا يجوز الخمول بحال غير مرضية). والمراد بالأحوال الصافية: هي التي توافق مراسم الشريعة؛ بحيث لا يكون عليها من الشارع اعتراض، بأن تكون مباحة في أصل الشريعة، ولو أخلت بالمروءة عند العوام، إذ المروءة إنما هي التقوى عند الخواص، والمراد بالأحوال، كل ما يثقل على النفس وتموت به سريعًا، كالمشي بالحفا وتعرية الرأس، والأكل في السوق، والسؤال، وغير ذلك من خرق عوائدها، التي هي شرط في حصول خصوصيتها، وفي الحِكَم: «كيف تخرق لك العوائد؟ وأنت لم تخرق من نفسك العوائد». وبالله التوفيق.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)} قلت: الجملة الشرطية صفة الأشياء، وأشياء سم جمع لشيء، أصله عند سيبويه: شيئَاءَ، مثل فَعلاء، قلبت إلى لفعاء، أي: قلبت لامه إلى فائه، لثقل اجتماع الهمرتين، وقال أبو حاتم: أشياء وزنها أفعال، وهو جمع شيء، وترك العرف فيه سماع، وقال الكسائي: لم ينصرف أشياء، لشبه آخره بآخر حمراء، انظر ابن عطية. وجملة (عفا الله عنها): صفة أخرى لأشياء، أي: عن أشياء عفا الله عنها، ولم يكلف بها. يقول الحقّ جلّ جلاله: {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء} ليس لكم فيها نفع، {إن تُبْدَ لكم تسؤكم} أي: إن تظهر لكم وتجابوا عنها تسؤكم؛ بالأخبار بما لا يعجبكم وبما يشق عليكم، قيل: سبب نزول الآية: كثرة سؤال الناس له صلى الله عليه وسلم من الأعراب والمنافقين والجُهال، فكان الرجل يقول للنبي عليه الصلاة والسلام ؟ أين ناقتي؟ وآخر يقول: ماذا ألقى في سفري؟ ونحو هذا من التعنيت، حتى صعد المنبر صلى الله عليه وسلم مغضبًا، فقال: «لا تَسألُوني اليوم عن شيء إلا أخبرتُكُم به» فقام رجل فقال: أين أنا؟ فقال: «في النار» وقام عبَدُ الله بن حُذَافة وكان يُطعَنُ في نسبِهِ فقال: مَن أبي؟ فقال: «أبوكِ حُذافة»، وقال آخر: من أبي؟ قال: «أبوك سَالم مولى شيبة»، فقام عمر بن الخطاب، فجثا على ركبتيه، فقال: رَضِينا بالله رَبًا، وبالإسلامِ دِينًا، وبمُحمَّدٍ نَبِيًا نعوذ بالله من الفتن. فنزلت هذه الآية. وقيل: سبب نزولها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال: «أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج فحجوا» فقالوا: يا رسول الله، أفي كل عام؟ فسكت، فأعادوا، فقال: «لا، لو قُلتُ: نَعَم، لوجَبَت، وَلَو وَجَبت لَم تُطيقوه، ولَوَ تَركتُموه لهلكتم، فأترُكُوني مَا تَركتُكُم»، قال أبو ثعلبة الخشني رضي الله عنه: إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها، وحد حدودًا فلا تعتدوها، وعفا من غير نسيان عن أشياء، فلا تبحثوا عنها. ثم قال تعالى: {وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن} أي زمنه {تُبْدَ لكم} أي: تظهر لكم، وفيه معنى الوعيد على السؤال، كأنه قال: لا تسألوا، وإن سألتم أبدى لكم ما يسؤكم. والمراد بحين ينزل القرآن: زمان الوحي. فلا تسألوا عن أشياء قد {عفا الله عنها} ولم يكلف بها أو عفا الله عما سلف من سؤالكم، فلا تعودوا إلى مثلها، {والله غفور حليم} لا يعاجلكم بعقوبة ما فرط منكم ويعفو عن كثير. {قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين}؛ حيث لم يأتمروا بما سألوا، وجحدوا، وذلك أن بني إسرائيل كانوا يستفتون أنبياءهم عن أشياء؛ فإذا أُمروا بها تركوها، فهلكوا. فالكفر هنا عبارة عن ترك ما أمروا به. وقال الطبري: كقوم صالح في سؤالهم الناقة، وكبني إسرائيل في سؤالهم المائدة. زاد الشلبي: وكقريش في سؤالهم أن يجعل الله الصفا ذهبًا. ه. وكسؤالهم انشقاق القمر، وغير ذلك من تعنياتهم. والله تعالى أعلم. الإشارة: مذهب الصوفية مبني على السكوت والتسليم والصدق والتصديق، مجلسهم مجلس حلم وعلم وسكينة ووقار، إن تكلم كبيرهم أنصتوا، كأن على رؤوسهم الطير، كما كان الصحابة رضي الله عنهم، ولذلك قالوا: من قال لشيخه: (لِمَ) لم يفلح أبدًا. وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: إذا جلست مع الكبراء فدع ما تعلم وما لا تعلم؛ لتفوز بالسر المكنون. ه. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللهَ يَنهَاكُم عَن قِيلَ وقَالَ، وكَثرة السُّؤالِ، وإضَاعَة المَالِ» وقال الورتجبي في الآية تحذير المريدين عن كثرة سؤالهم في البداية عن حالات المشايخ. ه. قلت: وعلة النهي: لعله يطلع، بكثرة البحث عن حالهم، على أمور توجب له نفرة أو غضًّا من مرتبتهم قبل تربية يقينة، فالصواب: السكوت عن أحوالهم، واعتقاد الكمال فيهم، وكذلك يجب عليه ترك السؤال عن أحوال الناس، والغيبة عما هم فيه؛ شغلاً بهم هو متوجه إليه، وإلا ضاع وقته، وتشتت قلبه، ولله در القائل: ولَستُ بِسائِلٍ مَا دُمتُ حَيًّا *** أسَارَ الجَيشُ أم رَكِبَ الأمِيرُ؟ والله تعالى أعلم.
{مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)} قلت: البحيرة: فعيلة بمعنى مفعولة، من بَحَرَ، إذا شق، وذلك أن الناقة كانت إذا ولدت عندهم في الجاهلية عشرة أبطن، شقوا أذنها، وتركوها ترعى، ولا ينتفع بها، وأما السائبة فكان الرجل يقول: إذا قدمت من سفري، أو برئت من مرضي، فناقتي سائبة، فإذا قدم أو برىء سيّبها لآلهتهم، فلا تُحلَب، ولا تُركب، ولا تُمنَع من شجر، وقد يُسَيّبُون غير الناقة، فإذا سيّبوا العبد فلا يكون عليه ولاء لأحد، وإن قال ذلك، اليوم، فحمله على العتق، وولاؤه للمسلمين، وفعل ذلك اليوم في الحيوان حرام، كما يفعله جهلة النساء في الديك الأبيض؛ يحرر حتى يموت، فإذا فعل ذلك ذبح وأكل. وأما الوصيلة: فكانوا إذا ولدت الناقة ذكرًا وأنثى متصلين، قالوا: وصلت الناقة أخاها، فلم يذبحوها، وأما الحام: فكانوا إذا نتج من الجمل عشرة أبطن، قالوا: قد حُمي ظهرُه، فلا يُركب ولا يُحمل عليه. يقول الحقّ جلّ جلال: في إبطال هذه الأشياء: {ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام} أي: ما شرع الله شيئًا من ذلك، ولا أمر به، {ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب} بتحريم ذلك، ونسبته إليه، {وأكثرهم لا يعقلون}، أي: جُلهم لا عقل لهم، بل هم مقلدون غيرهم في تحريم ذلك، وتقليد الآباء والرؤساء في تحريم ما أحل الله تعالى شرك؛ لأنهم نَزَّلَوا غير الله منزلته في التحريم والتحليل، وهو كفر، {وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول} من الحلال والحرام، {قالوا حسبنا} أي: يكفينا {ما وجدنا عليه آباءنا}، وهذا بيان لقصور عقولهم وانهماكهم في التقليد، قال تعالى: أيتبعونهم {ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئًا ولا يهتدون} سبيلاً. قال البيضاوي: الواو للحال، والهمزة دخلت عليها؛ لإنكار الفعل على هذه الحال، أي: أحسَبُهم ما وجدوا عليه آباءهم ولو كانوا جهلة ضالين؟ والمعنى: أن الاقتداء إنما يصح لمن عُلِمَ أنه عالم مهتد، وذلك لا يعرف إلا بالحجة، فلا يكفي التقليد. ه. الإشارة: قد نفى الله تعالى الخصوصية عن أربعة أنفس من أنفس المدعين، منها: نفس دخلت بحر الحقيقة بالعلم، وتبحرت في علمها دون الحال والذوق، وأهملت مراسم الشريعة حتى سقطت هيبتها من قلبها، فانسل منها الإيمان والإسلام انسلال الشعرة من العجين. ومنها نفس سائبة أهملت المجاهدة وانسابت في الغفلة، وأخذت الولاية بالوراثة من أسلافها، دعوى، أو ظهرت عليها خوارق، استدراجًا، مع إصرارها على كبائر العيوب، ومنها: نفس وصلت إلى الأولياء وصحبتهم، وخرجت عنهم قبل كمال التربية، وتصدرت للشيخوخة قبل إبانها، ومنها: نفس حمت ظهرها من التجريد، ووفرت جاهها مع العبيد، وادعت كمال التوحيد وأسرار التفريد، لمجرد مطالعة الأوراق، من غير صحبة أهل الأذواق، وهؤلاء بعداء من حيث يظنون القرب، مردودون من حيث يظنون القبول، والعياذ بالله من الدعوى وغلبة الهوى، فإذا قيل لهؤلاء: تعالوا إلى من يعرفكم بربكم، ويخرجكم من سجن نفوسكم، قالوا: نتبع ما وجدنا عليه أسلافنا، فيقال لهم: أتتبعونهم ولو كانوا جاهلين بالله؟.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)} قلت: {عليكم}: اسم فعل، وفاعله مستتر فيه وجوبًا، و{أنفسكم}: مفعول به على حذف مضاف؛ أي: الزموا شأن أنفسكم. قاله الأزهري. يقول الحقّ جلّ جلاله: {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم}: احفظوها والزموا صلاحها، {لا يضرّكم مَن ضلّ إذا اهتديتم} أنتم، أي: لا يضركم ضلال غيركم إذا كنتم مهتدين؛ ومن الاهتداء أن ينكر المنكر حسب طاقته، قال صلى الله عليه وسلم: «مَن رَأى مِنكُم مُنكَرًا، واستطَاعَ أن يُغيِّره بَيدِه، فَليغَيِّر، فإنَّ لم يَستَطِع فَبِلسانِه، فإن لم يَستَطعِ فَبقَلبِه» والآية نزلت حيث كان المؤمنون يحرصون على الكفرة، ويتمنون إيمانهم، وقيل: كان الرجل إذا أسلم قالوا له: سفهت آباءك، فلاموه، فنزلت. وعن أبي ثعلبة الخشني قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم} ؟ فقال: «أئتِمَرُوا بالمَعرُوِفِ، وانهوا عن المُنكَرِ، فإذَا رَأيتَ دُنيا مُؤثَرةٍ، وشُحًا مُطاعًا، وإعجَابَ كُلِّ ذِي رأي بِرأيِه، فَعَليكَ بخويصة نَفسِك، وَذَر عوامَهم؛ فإنّ وَراءكُم أيامًا، العامِلُ فيها كأجرِ خَمسِينَ مِنكُم». وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه بلغه أن بعض الناس تأول الآية على أنه لا يلزم معها أمر ولا نهي، فصعد المنبر، فقال: (يا أيها الناس: لا تغتروا بقول الله تعالى: {عليكم أنفسكم} فيقول أحدكم: عليّ نفسي، والله لتأمُرن بالمعروف، ولتنهَوُنَّ عن المنكر أو ليستعملن عليكم شرارَكم فليسُومُنكم سوء العذاب). وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (ليس هذا بزمان هذه الآية، قولوا الحق ما قُبِلَ منكم، فإذا رُدّ عليكم فعليكم أنفسكم). قال ابن عطية: وجملة ما عليه أهل العلم في هذا: أن الأمر بالمعروف متعين متى رجى القبول، أو رجى رد المظالم، ولو بعُنف، ما لم يخف الآمِرُ ضررًا يلحقه في خاصته، أو فتنة يدخلها عن المسلمين، إما بشق عصًا، وإما بضرر يلحق طائفة من الناس، فإذا خيف هذا فعليكم أنفسكم، حُكمٌ واجب أن يوقف عنده. ه. ثم هدد مَن لم ينته، فقال: {إلى الله مرجعكم جميعًا فَيُنَبِّئُكم بما كنتم تعملون} وفيه تنبيه على أن أحدًا لا يؤاخذ بذنب غيره، وتسليةٌ عن أمور الدنيا؛ مكروهها ومحبوبها، بذكر الحشر وما بعده، وعن بعض الصالحين أنه قال: ما من يوم إلا يجيئني الشيطان فيقول: ما تأكل؟ وما تلبس؟ وأين تسكن؟ فأقول له: آكل الموت، وألبس الكفن، وأسكن القبور. ه. الإشارة: في الآية إغراء وتحضيض على الاعتناء بإصلاح النفوس وتطهيرها من الرذائل، وتحليتها بالفضائل، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} عليكم بإصلاح أنفسكم أولاً، فإذا صلحت فأصلحوا غيركم، فعلى العبد أن يشتغل بشأن نفسه ولا يلتفت إلى غيره، حتى إذا كمل تطهيرُها، وفرغ من تأديبها، فإن أمره الحق جل جلاله بإصلاح غيره على لسان شيخ كامل، أو هاتف حقيقي، فليتقدم لذلك، فإنه حينئٍذ محمول محفوظ مأذون، وإلا فعليه بخاصة نفسه، كما تقدم. والله تعالى أعلم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآَثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآَخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)} قلت: {شهادة}: مبتدأ، وخبره: {اثنان}، أي: مقيم شهادة بينكم اثنان، أو حذف الخبر، أي: أمرتكم شهادة بينكم، و{اثنان} على هذا: فاعل شهادة، و{إذا}: ظرف لشهادة، و{حين الوصية}: بدل منه، ويجوز أن يكون {إذا}: شرطية حذف جوابها، أي: إذا حضر الموت فينبغي أن يشهد حين الوصية اثنان، و{ذوا عدل}: صفة لاثنان، أو {آخران}: عطف على {اثنان}، {إن أنتم}: شرط حذف جوابه، دل عليه ما تقدم، أي: إن سافرتم، فأصابتكم مصيبة الموت في السفر، فشهادة بينكم اثنان. و {تحبسونهما}: قال أبو علي الفارسي: هو صفة لآخران، واعترض بين الصفة والموصوف قوله: {إن أنتم} إلى قوله: {الموت}، ليفيدا العد، {آخران} من غير الملة، إنما يجوز لضرورة الضرب في الأرض وحلول الموت في السفر. وقال الزمخشري: هو استئناف كلام، {إن ارتبتم}: شرطية، وجوابها محذوف، دلّ عليه {يقسمان}، و{لا نشتري} هو المقسم عليه، وجملة الشرط معترضة بين القسم والمقسم عليه، والتقدير: إن ارتبتم في صدقهما فأقسما بالله لا نشتري به، أي: بالقسم، ثمنًا قليلاً من الدنيا، و{الأوليان}: خبر، فيمن قرأ بالبناء للمفعول، أو فاعل، فيمن قرأ بالبناء للفاعل، ومن قرأ {الأولين} تثنية أول فبدل من الذين، أو صفة له. قال مكّي: (هذه الآية أشكل آية في القرآن؛ إعرابًا ومعنى). وسبب نزولها: أن تميمًا الدَّاريَّ وعَدي بن بداء وكانا أخوين، خرجا إلى الشام للتجارة وهما حينئٍذ نَصرانيّان ومعهما بُدَيلٌ مولَى عمرو بن العاصَ، وكان مُسلمًا، فلمّا قَدِما الشام مَرِضَ بُديلٌ، فدون ما مَعَه في صَحيفةٍ، وطرحها في متَاعه، وشدّ عليها، ولم يُخبرهُما بها، وأوصى إليهمَا بان يَدفعا مَتَاعَه إلى أهلِه، ومات، ففتّشاه، وأخذا منه إنَاءً من فِضّة، قيمته: ثلاثُمائة مثقالٍ، مَنقُوشًا بالذَهبِ، فجنّباه ودفَعَا المتَاعَ إلى أهلِهِ، فأصَابُوا الصَّحِيفَةَ، فطَالبُوهُمَا بِالإناء، فجَحَدا، فترافعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت: {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم} إلى قوله: {من الآثمين} فحلّفَهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد صلاة العصر، عند المنبر، وخلا سبيلهما. ثم عثر بعد مدة على الإناء بمكة، فقيل لمن وجد عنده: من أين لك هذا؟ قال: اشتريته من تميم الداري وعديّ بن بداء، فرفع بنو سهم الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت: {فإن عثر على أنهما استحقا إثمًا فآخران يقومان مقامهما}، فقام عمرو بن العاصَ والمطلب بن أبي وَداعة السهميان، فحلفا واستحقا الإناء. ومعنى الآية: يقول الحقّ جلّ جلاله: {يا أيها الذين آمنوا}، مما نأمركم به: أن تقع {شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت}، وأراد الوصية فيحضر عدلان منكم، فإن كنتم في سفر وتعذر العدلان منكم، فليشهد {آخران من غيركم} ممن ليس على دينكم، ثم إن وقع ارتياب في شهادتهما، {تحبسونهما} بعد صلاة العصر {فيقسمان بالله} ما كتمنا، ولا خُنَّا، ولا نشتري بالقسم أو بالله عرضًا قليلاً من الدنيا، ولو كان المحلوف له قريبًا منا، {ولا نكتم شهادة الله} {إنّا إذًا}، إن كتمنا، {لمن الآثمين}. فإذا حلفا خلّي سبيلهما، {فإن عُثر} بعد ذلك {على} كذبهما و{أنهما استحقا إثمًا} بسبب كذبهما، {فآخران} من رهط الميت {يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم} المال المسروق، اللذان هم {الأوليان} أي: الأحقان بالشهادة، {فيُقسمان بالله} فيقولان: والله {لشهادتنا أحق من شهادتهما}، وأصدق، وأولى بأن تقبل، {وما اعتدينا}: وما تجاوزنا فيها الحق، {إنا إذًا لمن الظالمين}، فإن حلفا غرم الشاهدان ما ظهر عليهما، وتحليف الشهود منسوخ، وهذا الحكم خاص بهذه القضية. قال البيضاوي: الحكم منسوخ إن كان الاثنان شاهدين، فإنه لا يحلف الشاهد، ولا تُعارِضُ يمينه يمينَ الوارث، وثابت إن كانا وصيين. ه. وكذا شهادة غير أهل الملة منسوخة أيضًا، واعتبار صلاة العصر للتغليظ، وتخصيص الحلف في الآية باثنين من أقرب الورثة لخصوص الواقعة. قاله السيوطي. قال تعالى: {ذلك} أي: تحليف الشهود، {أدنى} أي: أقرب {أن يأتوا بالشهادة على وجهها} كما تحملوها من غير تحريف ولا خيانة فيها، {أو يخافوا أن تُرَدّ أيمَانٌ بعد أيمانهم} أي: أو أقرب لأن يخافوا أن ترد اليمين على المدعين بعد أيمانهم، فيفتضحوا بظهور الخيانة واليمين الكاذبة، وإنما جمع الضمير، لأنه حكم يعم الشهود كلهم، {واتقوا الله واسمعوا} ما تُوصون به، فإن لم تتقوا ولم تسمعوا كنتم قومًا فاسقين، {والله لا يهدي القوم الفاسقين} أي: لا يهديهم إلى حجة أو إلى طريق الجنة. الإشارة: أمر الحقّ جلّ جلاله في الآية المتقدمة، بالاعتناء بشأن الأنفس، بتزكيتها وتحليتها؛ وأمر في هذه الآية بالاعتناء بشأن الأموال؛ بحفظها، والأمر بالإيصاء عليها ودفعها لمستحقها؛ إذا كلاهما يقربان إلى رضوان الله، ويوصلان إلى حضرته، وقد كان في الصحابة من قربه ماله، وفيهم من قربه فقره، وكذلك الأولياء، منهم من نال الولاية من جهة المال أنفقه على شيخه فوصله من حينه، ومنهم من نال من جهة فقره أنفق نفسه في خدمة شيخه، وقد رُوِيَ أن سيدي يوسف الفاسي أنفق على شيخه قناطير من المال، قيل: أربعين، وقيل: أقل. والله تعالى أعلم.
{يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)} قلت: {يوم}: بدل من {الله}، بدل اشتمال، أي: اتقوا يوم الجمع، أو ظرف لاذكُر، و{ماذا}: منصوب على المصدر، أي: أيّ إجابة أُجبتم. يقول الحقّ جلّ جلاله: واذكر {يوم يجمع الله الرسل} والأمم يوم القيامة {فيقول} للرسل: {ماذا أُجبتم} ؟ أي: ما الذي أجابكم به قومكم، هل هو كفر أو إيمان، طاعة أو عصيان؟ والمراد بهذا السؤال توبيخ من كفر من الأمم، وإقامة الحجة عليهم، فيقولون له في الجواب: {لا علم لنا} مع علمك، تأدبوا فوكلوا العلم إليه، أو علمنا ساقط في جنب علمك؛ {إنك أنت علاّم الغيوب}؛ لأن من علم الخفيات لا تخفي عليه الظواهر والبواطن، وقرىء بنصب علام، على أن الكلام قد تم بقوله: {إنك أنت} أي: إنك الموصوف بصفاتك المعروفة، وعلام نصب على الاختصاص أو النداء. قاله البيضاوي. الإشارة: من حجة الله على عباده، أن بعث في كل أمة نذيرًا يدعوا إلى الله، أما عارفًا يعرف بالله، أو عالمًا يعلم أحكام الله، ثم يجمعهم يوم القيامة فيسألهم: ماذا أجيبوا، وهل قوبلوا بالتصديق والإقرار، أو قوبلوا بالتكذيب والإنكار؟ فتقوم الحجة على العوام بالعلماء، وعلى الخواص بالعارفين الكُبراء، أهل التربية النبوية، فلا ينجو من العتاب إلا من ارتفع عنه الحجاب، بصحبة العارفين وتعظيمهم وخدمتهم، إذ لا يتخلص من العيوب إلا من صحبهم وأحبهم وملّك نفسه إليهم. والله تعالى أعلم.
{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آَمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آَمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)} قلت: {إذ}: بدل من {يوم يجمع}، أو باذكر، وجملة {تكلم}: حال من مفعول {أيدتك}. يقول الحقّ جلّ جلاله: واذكر {إذ} يقول الحق جل وعز يوم القيامة: {يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك} بالنبوة والرسالة، وعلى أمك بالاصطفائية والصديقية، وذلك حين {أيدتك} أي: قويتك {بروح القدس}، وهو جبريل عليه السلام كان لا يفارقك في سفر ولا حضر، أو بالكلام الذي تحيا به الأنفس والأرواح، الحياة الأبدية. كنت {تكلم الناس في المهد} أي: كائنًا في المهد {وكهلاً} أي: تكلم في الطفولة والكهولة بكلام يكون سببًا في حياة القلوب، وبه استدل أنه ينزل، لأنه رفع قبل أن يكتهل، {و} اذكر {إذ علّمتك الكتاب} أي: الكتابة، {والحكمة}: النبوة {والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيراً بإذني وتبرىء الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني} وتقدم تفسيرها في آل عمران. وكرر {بإذني} مع كل معجزة؛ إبطالاً لدعو الربوبية فيه، إذ قد عزله عن قدرته ومشيئته مع كل معجزة. قال ابن جزي: الضمير المؤنث يعنيي في «فيها» يعود على الكاف، لأنها صفة الهيئة، وكذلك المذكور في آل عمران. {فأنفخ فيه} يعود على الكاف، لأنها بمعنى مثل، وإن شئت قلت: هو في الموضعين يعود على الموصوف المحذوف الذي وصف به كهيئة، فتقديره في التأنيث: صورة، وفي التذكير: شخصًا، أو خلقًا وشبه ذلك. ه. {و} اذكر أيضًا {إذ كففت بني إسرائيل عنك} حين هموا بقتلك، {إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين} أي: ما هذا الذي جئتنا به إلا سحرًا، أو: قالوا في شأنك حين جئتهم: ما هذا إلا ساحر مبين، {و} اذكر أيضًا {إذ أوحيت إلى الحواريين} أي: ألهمتهم، أو أمرتهم بأن {آمنوا بي وبرسولي} عيسى، فامتثلوا، {وقالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون} أي: منقادون ومخلصون. الإشارة: قال الورتجبي: من تمام نعمة الله تعالى عليه صيرورة جسمه بنعت روحه في المهد على شبابه بالقوة الإلهية، بأن نطق بوصف تنزيه الله وقدسه وجلاله، وربويته وفناء العبودية فيه، وبقيت تلك القدرة فيه إلى كهولته، حتى عرّف عباد الله تنزيه الله وقدس صفات الله وحسن جلال الله، وهذا معنى قوله تعالى: {تُكلم الناس في المهد وكهلاً}، وزاد في وصفه بقوله: {وإذ علمتك الكتاب}، تجلى بقدرته بيده حتى يخط بغير تعلم. ه. فانظره، مع ما ورد في التاريخ أنه كان يذهب مع الصبيان للمكتب.
|